السبت، 2 مايو 2015

التأديب والمؤدبون في العصر العباسي




ـ
  التأديب والمؤدبون في العصر العباسي

حسين أحمد حسين الخقر



مقدمة 
 إن الحمد لله نحمده و نستعينه ،  ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،  وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله r وبعد :
إن التربية الإسلامية تمثل المنهج الأسمى الذي يحقق التطبيق الفعلي للشريعة الإسلامية ، ذلك أن الإسلام لا يركز على الجانب العلمي والمعرفي فحسب ، بل يهدف إلى التطبيق والممارسة العملية ، والعلم وسيلة لتحقيق هذا التطبيق الصحيح ، الذي يرسم للإنسان سبيل الهدى والفلاح من لدن آدم u إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وفق ما جاء به نبينا محمد r  ، الذي قال الله تعالى فيه : }  هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ   { ([1]).
والتربية الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان ، إذ هي ربانية المصدر ، عالمية، شاملة، ثابتة الأصول، مرنة التطبيق ، تشمل ميادين الحياة الدنيوية والأخروية في توازن واعتدال، وفق منهج رضيه الله I لعباده ، واختاره لهم ، تلك هي التربية الإسلامية التي تؤصِّل العقيدة في النفوس ، وترسِّخ الإيمان في القلوب ، وتحبب شرع الله إلى عباد الله . قال تعالى :}   وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ  { ([2]) .




ومما تجدر الإشارة إليه الاهتمام بهذا النهج التربوي حيث اهتمت التربية الإسلامية بإعداد النشء في مختلف مراحل عمره إعداداً يتوافق مع أهداف التربية الإسلامية من خلال عملية التعليم أو التأديب التي يتولاها المعلم أو المؤدِّب ، أو ولي الأمر ، أو غيرهما ممن يملك زمـام التربية والتعليم  .

موضوع البحث وتساؤلاته :
موضوع البحث التأديب والمؤدِّبون في الدولة العباسية  .
والذي من شأنه أن يستفاد منه في التطبيقات التربوية الحديثة . وعلى هذا فإن موضوع الدراسة يتحدد في السؤال الرئيس التالي: ( ما منهج التأديب و المؤدِّبين اثناء التربية والتعليم في العصر العباسي ؟ )
  
ويتفرع من هذا السؤال ما يلي :

·      ما مفهوم التأديب     ؟
·     من أشهر المؤدِّبين في العصر العباسي ؟
·     ما معايير  إختيار المؤدب في العصر العباسي ؟








أهمية البحث :

يعد البحث في موضوع التأديب والمؤدِّبين ذا أهمية تربوية للأمور التالية :
1. لأنه منهج تربوي يحتاج إلى سبرٍ للاستفادة منه في مجال التربية المعاصرة .
2. ولأن التأديب مسلك تعليمي في التعامل مع الناشئة وفق أنماطٍ تربويةٍ خاصة تراعي المتطلبات  التي يحتاج إليها ذلك العصر ، 
3. ولأنه يفتح مجالاً لدراسات مستقبلية تهتم بدراسة المصطلحات التربوية التاريخية لدى المسلمين ، 

أهداف البحث :
1. بيان مفهوم التأديب ،  في العصر العباسي  .
2. معرفة أشهر المؤدِّبين في العصر العباسي   .
3. التعرف على  معايير إختيار المؤدِّبين في العصر العباسي .
4. التعرف على أجور المؤدبين في العصر العباسي  .
                                                                               
محتويات البحث :-
الفصل الاول  : المقدمة
1. موضوع البحث وتساؤلاته.
2. أهمية البحث .
3. أهداف البحث .
4. محتويات البحث .
5. منهج البحث  .
6. حدود البحث .
7. الدراسات السابقة .



الفصل الثاني:   التأديب مفهومه ومنهجه ،

 ويشتمل  على  : مفهوم التأديب في اللغة والاصطلاح
               أولاً : تعريف التأديب في اللغة  .
ثانياً : التأديب في الاصطلاح .
                ثالثاً :  منهج التأديب في العصر العباسي.

 الفصل الثالث    : اختيار المؤدب وأماكن التأديب .
            ويشتمل  على  :

 اولاً :   الفرق بين المؤدب والمعلم .
 ثانياً :شروط اختيار المؤدب .
ثالثا : المساجد ودورها في التأديب .
رابعاً : قصور الخلفاء ودورها في التأديب في العصر العباسي .
خامساً : منازل العلماء وأثرها في التأديب .

الفصل الرابع : أشهر المؤدبين وأجور المؤدبين

  : ويشتمل على أشهر المؤدبين

أولاً : معاوية بن يسار
ثانياً : علي الكسائي
ثالثاً : يحيى الفراء
رابعاً : عبد الملك الأصمعي
   خامساً : اجور المؤدبين


الفصل الخامس :  الخاتمة وتشتمل على  :
أولاً : النتائج .
ثانيا ً : التوصيات والمقترحات .

ثالثاً : الفهارس العامة وتشمل على :

رابعاً : قائمة المصادر والمراجع
 خامساً :  قائمة المحتويات .

منهج البحث :

      إن من لوازم البحث لهذه الدراسة إخراجها على المنهج العلمي المؤصَّل من خلال:
1.  ترقيم الآيات القرآنية وعزوها إلى مواضعها في كتاب الله U .
2.  تخريج الأحاديث النبوية من مصادرها الأصلية 

3.  عند التوثيق في هامش البحث وكان النص المنقول من كتاب مطبوع، فإنني أقوم بكتابة المراجع والمصادر  .
4.  عمل الفهارس اللازمة  للموضوعات .








الدراسات السابقة :
 مقالات تربوية ودراسات تاريخية تناولت نُتَفَاً عن قضايا تتعلق بالتأديب والمؤدِّبين في التاريخ الإسلامي ومن تلك الدراسات :

1. دراسة   بعنوان : (مؤدبو الخلفاء في العصر العباسي الأول  )  محمد بن عيسى صالحية
  رمي الباحث لدراسة في دراسته إلى التطرق لمناهج التعليم عند العباسيين ، وتطور أساليب التربية من خلال تأديب أبناء خلفاء  بني العباس في العصر الأول .
 
2.  دراسة : بعنوان  ( المؤدِّبون وصنعة التأديب دراسة في التراث التربوي الإسلامي ) محمود قمبر    :
  أراد الباحث من خلال هذه الدراسة التوصُّل إلى بيان السمات والمعايير التي يتم من خلالها اختيار المؤدِّب مبيناً أهم أشكال وطرائق التدريس عند المؤدِّبين  .
 
3.   دراسة   بعنوان : ( التأديب في العصر العباسي الاول دراسه تربوية نقديه ) سليمان قندو
              
لقد قام الباحث بتناول موضوع التأديب في منهج التربية الإسلامية ، وكذا التعرض لمفهوم المؤدِّبين ، وذكر أشهر العلماء ممن مارسوا مهنة التأديب في العصر العباسي الأول مع بيان الآثار الإيجابية والسلبية للتأديب على المتأدِّبين ،    وذكر في الدراسة بعض الوصايا في العصر الأموي تدعيماً لبعض الجوانب التأديبية في العصر العباسي الأول .



الفصل الثاني : التأديب مفهومه ومنهجه :

أولا : التأديب في اللغة :

  إن مصطلح الأدب من المصطلحات اللغوية الواسعة في دلالاتها واستعمالاتها ،  ولقد جاء في قواميس اللغة العربية تعريف التأديب بما يلي :
 أَدَبَ :  الأدَب :  الذي يَتَأَدَّبُ به الأديبُ من الناس؛ سُمِّي أدباً لأنه يَأدِبُ الناس إلى المحامد ،
  ويَنْهاهم عن المَقَابِح.وأصل الأدب الدُّعاء ، ومنه قيل للصِّنِّيع يدعى إليه الناس : مَدْعاةً ومأْدُبَةً.
وأدَّبه فَتَأدَّب : عَلَّمَه ،  واستعمله بعض اللغويين  في حق الله U  ،  فقالوا :  وهذا ما أدَّب الله تعالى به نَبِيَّه r. ( [3] )   أدَّب : أدَّبْتُه : أَدَبَاً :  علمته رياضة النفس ،  ومحاسن الأخلاق.
    والأدب :  أدب الدرس ،  وأدب النفس.والأدب أيضاً: (( مصدر أَدَبَ القوم يأدِبُهم ،  إذا دعاهم إلى طعامه ، والآدبُ : الداعي إلى الطعام  ))  ( [4])    

والمَأْدُبـة : هي الطعام الذي يصنعه الرجل ويدعو إليه الناس ،  وآدَبَ القوم إلى طعامه يُؤْدِبـُهم إيْداباً ،  وأدَبَ :  عَمِلَ مَأْدُبَةً. والأُدْبَـةُ والمَـأْدَبَةُ والمَـأْدُبَةُ  : كلُّ طعامٍ صُنِعَ لـدعوةٍ أو عـرسٍ. ( [5])     
وتأدَّب تأدُّباً يأتي على عدة معانٍ :
أ‌-     تعلَّم الأدب.
   ب- تأدّب بكذا.أو بأدب فلان :  اقتدى به.
    ج- بمعنى التهذيب
   وهناك من يعرّف التأديب على أنه التعزير والتوقير والتعظيم ، ومنه التعزير الذي هو الضرب دون الحد . ( [6]) 
يقول ابن منظور    :  (( وأصل التعزير التأديب  ، ولهذا يسمى الضرب دون الحد تعزيراً ، إنما هو أدبٌ  )) ([7]) .

  وقيل للتأديب الذي هو دون الحدّ تعزير ، لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب .    
وهو دعوة المرء إلى فعل المحامد والبعد عن ارتكاب المساوئ، وهذه المعاني  السابقة كلها لها علاقة بالتعريف الاصطلاحي.

ثانياً: التأديب في الاصطلاح :

 إن المتتبّع لأقوال العلماء حول مفهوم التأديب يجد أنه من الممكن حصرها في المعاني التالية:
1.     أن التأديب :  هو أن يتحلّى المتأدب بالفضائل ويبتعد عن ارتكاب المقابح والرذائل.
2.  ويرى آخرون على أنه استخدام العقوبة المعنوية أو الحسيَّة بغية كفّ المتأدِّب عن قبيح الفِعَال ومَشِينِ الخِصَال.
3. بينما يرى البعض على أن التأديب هو تلقين المتأدب وتعليمه صنوف الأدب شعراً ونثراً من أجل تهذيب سلوكه وصقل مواهبه ،  مراعياً في ذلك مبدأ التدرج في التعليم ،  مستخدماً أنواع الأساليب والطرائق .
ومما يؤكد تلك المفاهيم ويقررها ما ذهب إليه جملة من العلماء الذين ذكروا أن من معاني التأديب التحلي بالفضائل والبعد عن ارتكاب المقابح والرذائل ، ومن هؤلاء الإمام ابن القيِّم                    -رحمه الله – إذ يقول : (( وعلم الأدب
  هو علم إصلاح اللسان والخطاب ،  وإصابة مواقعه ،  وتحسين ألفاظه ،  وصيانته عن الخطأ والخلل ،  وهو شعبة من الأدب العام  ))  ( [8] )  
والمتأمل فيما سبق يلحظ الارتباط الوثيق بين التأديب والعناية بالجانب الأخلاقي للناشئة حيث يدعوهم إلى التحلّي بمحاسن الآداب ،  وجميل الأخلاق ،  ومليح الصفات والبعد عن مشينها؛ ولأن التأديب يغرس في النشء العادات الطيبة ،  والأخلاق الكريمة ،  والعلم النافع والسلوك الحميد ،  فهو وسيلة إلى الفضيلة وطريق إلى ما ينفع المرء في دينه ودنياه.
    وأما من قال بأن التأديب هو استخدام العقوبة الحسيَّة أو المعنوية بُغية كفّ المتأدِّب عن قبيح الفِعَال ومَشِينِ الخِصَال. فإن جلّ من تناول قضايا التأديب من العلماء والمربين سواءً في المؤسسات التعليمية التربويّة ،  أو المجالس القضائيّة كالمحاكم قد أشاروا إلى هذا المعنى بصورةٍ أو بأخرى؛ كالتعزير فيمن ارتكب محظورا لم ينص فيه حد، فيقام في حقه التعزير بغية كفه عن الوقوع في الخطأ والزلل ، وذاك ضرب من ضروب التأديب .

  وأما ما كتبه المتأخرون في مجال التربية والتعليم فقد اعتمدوا على ما كتبه العلماء السابقون في مدوناتهم التراثية والتربوية في مسألة العقوبات.  
  وأما ما ذهب إليه القائلون بأن التأديب :  هو تلقين المتأدب وتعليمه صنوف الأدب شعراً ونثراً من أجل تهذيب سلوكه وصقل مواهبه، وقد كان هذا المفهوم سائداً عند معظم خلفاء بني العباس وأمرائهم     لمؤدبي أبنائهم . يقول هارون الرشيد لمؤدب ولده الأمين :  (( يا أحمر  ،  إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مُهْجة نفسه وثمرة قلبه ،  فصّير يدك عليه مبسوطة ،  وطاعته لك واجبة. فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين ،  أقرئه القرآن ،  وعرّفه الأخبار ،  ورَوِّه الأشعار،  وعلمه السنن ،  وبصّره بمواقع الكلام وبدئه ،  وامنعه من الضحك إلاّ في أوقاته ،  وخُذْه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ،  ولا تمرّن بك ساعة إلاّ وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها ،  من غير أن تخرق فتميت ذهنه ،  ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ،  وقَوِّمْه ما استطعت بالقرب والملاينة ،  فان أباهما فعليك بالشدة والغلظة )) ([9])     
 
  وهناك من قال إن التأديب هو :  التعليم في الكتاتيب ،  والخلوات القرآنية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد والجوامع. وفي الغالب فإن أصحاب هذا القول يقصرون التأديب على تعليم القرآن الكريم ،  
  وكثيراً ما تناول العلماء والباحثون لفظة التأديب وأرادوا بذلك تعليم كتاب الله  - U-    وقد ذكر الهيتميّ    ما يدل على أن المؤدِّب يطلق على معلمِّ الصبيان القرآن الكريم :  ((ولا يشترط تعين قراءة نافع ولاغيره.فيعلمه المؤدِّب بأي قراءة شاء  )) ([10])  .  
  
   ومما سبق يمكن القول أن التأديب اعتنى بالجانب المعرفي  ، كما أنه عَنِي بالجانب الأخلاقي والسلوكي للناشئة. يقول r :  ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم ((  ([11]) ويقول r : )) لأن يؤدّب الرجل ولده خير له من أن يتصدّق كل يوم بنصف صاع على المساكين ((  ([12])  وهذان الحديثان الشريفان يدلان على إرشاد النبي r للمربين إذ يقوموا بواجب التربية والتأديب ، 

     ومما سبق بيانه من المعاني اللغوية والمفاهيم الاصطلاحية   لمفهوم التأديب،  فإنه قد تبيّن  أن تلك المعاني اللغوية والاصطلاحية ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً ،  وعليه  فأن الاصطلاح الأنسب لمفهوم لتأديب هو  " عمليةٌ تربويةٌ شاملةٌ تَهدفُ إلى تعديل السلوك وتنميته،  واكتسابِ المعارفِ وغرس القيمِ الأخلاقيةِ ،  وتوجيهِ الرغباتِ والميولِ نحو الوِجْهةِ التي يُحددها ولي أمرِ المتأدِّب ، أو الجهة المسؤولة عنه "   

     فقد جمع هذا التعريف المعاني الاصطلاحية السابقة حيث أنه يهدف إلى تعديل السلوك والخاطىء باستخدام المثوبات والعقوبات-إن دعت الحاجة - لغرس القيم الحميدة والمعاني السامية لدى المتأدّب 

   ثالثاً :  المنــاهج التعــليمية للتـــأديب. 

   تتنوَّع المناهج التعليمية التي تناولت التأديب ، إذ لا يقتصر المحتوى التأديبي على الرغبة الشخصية لولي أمر المتأدِّب فحسب    ، وإنما تخضع للسياسة التي تريدها الدولة ، ويظهر هذا الأمر واضحاً عند تأمل وصايا المأمون لأبنائه فكثيراً ما كان يجمعهم ويوصيهم ،  فمن تلك الوصايا قوله:  (( أعظم الناس سلطاناً من تسلط على نفسه فوليها بحكم التدبير ، وملك هواه فحمله على محاسن الأمور ، وأشرب معرفة الحق فانقاد للواجب فوقف عند الشبهة حتى استوضح مقر الصواب فتوخاه ، ورزق عظيم الصبر فهان عليه هجوم النوائب تأميلاً لما بعدها من عواقب الرغائب ،  وأعطي فضيلة الصمت فحبس غريب لسانه ، وما ينبغي للملوك الاحتياط في اختيار الكفاة من الأعوان ، وإنزالهم منازلهم والانتصار بهم على ما يطيقونه  ))   ثم أنشد :
من كان راعيه ذئباً في حديقته          يرجو كفايته والغـدر عادته
       

فهو الذي نفسه في أمره ظلما
ومن ولايته يستشعر النـدما
   
 
 




   ففي هذه الوصية التي خاطب بها المأمون أبناءه وحرص على بناء شخصياتهم ، وتربيتهم تربية اجتماعية أساسها العطف والمحبة والإخاء فيما بينهم وكأنه لا يريد التكرار فيما كان بينه وبين أخيه الأمين من النزاع على أمر الخلافة . فقام بإعدادهم لتحمل مسؤولية الحكم والسياسة ، وحثهم على الاستعانة بأهل الرأي والخبرة والمشورة ، ليستفيدوا من خبرتهم وتجربتهم التي اكتسبوها في حياتهم، لأنه وجدفي أصحاب الرأي مرآة ناصعة تعكس للمستشير مالا يراه في نفسه من العيوب. ([13])       
   وكما أن لأصحاب الخبرة من المؤدبين وغيرهم أثرٌ واضح في تحديد الأُطُرِ التعليمية للمتأدبين ومن ذلك توجيه الكسائي  للأحمر ومادار بينهما من حوار حين عزم الأول على استخلاف الثاني في تأديب أولاد الرشيد فقال له  :  ((هل فيك خير؟قال : نعم ،  قال : قد عزمت على أن أستخلفك على أولاد الرشيد ،  فقال الأحمر:  لعلي لا أفي بما يحتاجون إليه ،  فقال الكسائي : إنما يحتاجون في كل يوم إلى مسألتين في النحو ، وثنتين من معاني الشعر ، وأحرفٍ من اللغة ، وأنا ألقِّنُك في كل يوم قبل أن تأتيهم ذلك ، فتحفظه، وتعلمهم ،  فقال نعم ) ([14])  .

  ولقد كانت النماذج الثقافية والمناهج التعليمية التي اهتدى إليها الخلفاء في العصر العباسي الأول تتمثَّل في الاقتداء بشخصية الرسول r  ، والخلفاء الراشدين y  ، وخلفاء بني أمية  ، غير أن خلفاء بني العباس عَمَدُوا إلى الاقتداء بتلك الشخصيات ومحاكاتها في مختلف شوؤنها ،  مما كان له الأثر الفاعل في تحديد الإطار العام لمناهج تأديب أبناء الخلفاء في العصر العباسي الأول.
ومما ينبغي أن يُعلم حرص أولئك المؤدبون على تأهيل شخصية من يؤدِّبونهم بمختلف المعارف والفنون والعلوم التي ترقى بهم إلى درجة علمية متقدمة في مجتمعهم تؤهلهم لتولي القيادة ومهام الأمور. ومن تلك المواد التعليمية التي وُضِعَت وحَدَّدَ معالمها المؤدِّبون في ذلك العصر مايلي :
                         أ‌-     العــلوم الـدينية :
لا يخفى أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسان في أي منهج تربوي يقوم على تعديل السلوك وتقويمه  (( فالقرآن الكريم وضّح أحوال النفس البشرية بجميع جوانبها المختلفة : نفسيًّا ، وفكريًّا وأخلاقيًّا، وتعبديًّا ... وإلى جانب ذاك المصدر الأصيل ، فإن السنة النبوية كانت تطبيقًا عمليًّا ، وسلوكًا يترجم ما ورد في القرآن الكريم على أرض الواقع )) .

    وقد وصَّى الإمام مالك –رحمه الله - الخليفة هارون الرشيد بتأديب ابنه قائلاً : (( أدب ولدك ، ومن وليت أمره على خُلُقك وأدبك ، حتى يتأدَّبوا على ما أنت عليه ، فيكونوا لك عوناً على طاعة الله ،  بلغني عن ابن مسعود t أنه قال : كل مؤدَّب يجب أن يؤخذ بأدبه ، وإن أدب الله U هو القرآن ))   ([15])
   
إن من جملة ما درسه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور القرآن الكريم ،  والحديث الشريف ،  والفقه ، فنال جانباً جيداً وطرفاً صالحاً ، وذلك في أرض الحميمة    والكوفة ،  عندما ارتحل إليها من الحيرة قادماً من الموصل ، وكان يحضر مجالس أكابر الفقهاء والمحدِّثين والقُرَّاء في مسجد الكوفة ومربدها   كمجالس أبي عمرو بن العلاء   ، والخليل بن أحمد الفراهيدي    ، وغيرهم ([16])  .
    إن دراسة الجانب الديني من وصيِّة هارون الرشيد تلقي المزيد من التفصيل حول هذه المسألة ،  فوصيِّة الرشيد للأحمر النحوي ،  عندما أُوكل إليه تأديب الأمين والمأمون ،  و اشتملت على إقرائه القرآن الكريم ، وتعليمه السنن وتفقيهه أمور الدين ،  ومسائل العبادات .  

  ولقد حرص المؤدِّبون على تزويد أبناء الخلفاء بثقافة واسعة في مجالات العلوم الدينية، واللغة العربية والأدب وسائر العلوم التطبيقية    ، حتى أخذت المواد الدينية الصدارة من بين العلوم لتبرهن عن مدى اهتمام المؤدِّبين بهذا الجانب لما في ذلك من منافع ومصالح خاصة وعامة.



    ب‌-    الأخبـار والسـير :

   إن معرفة الأحداث التاريخية وأخبار الأمم السابقة تساعد على معرفة أحوالهم وكيف استطاعوا مواجهة الاضطرابات السياسية والقضاء عليها ،  ولعل هذا ما هدف إليه المنصور عندما كلف الحافظ محمد بن إسحاق صاحب السير والمغازي لإلمامه بأيام العرب وأخبارهم أن يضع لابنه المهدي كتاباً مذ خلق الله U آدم u إلى يومه ذاك فصنِّف له ما أراد . ([17])    
كما كان أبو جعفر المنصور يولي النسب العباسي اهتماماً كبيرا حيث إنه حاول كتابة تاريخ الأسرة العباسية ؛ ليثبت صلتها بالنبي r  ، وكذا أعلام الأسرة وبداية الدعوة ،  ومَنْ هُمْ أنْصَارُها ومؤيِّدُوها ؟ وكيف وصلت إلى الخلافة    ، لقد حرص أبوجعفر المنصور غاية الحرص على ترسيخ أواصر الصلة بين أفراد الأسرة العباسية كما أشارت كتب التاريخ الإسلامي إلى ذلك  وقد طلب أبو جعفر المنصور من الُمؤدِّب الشرقي القطامي  أنْ يهتمَّ بتعليم ابنه  المهدي الأخبار والسير، فوضع له الشرقيُّ (( كتاباً في التاريخ والأنساب )) كما أمره أن يأخذه بمكارم الأخلاق ويؤدِّبه بأيام العرب ، وقراءة أشعارهم ،  ودراسة أخبارهم    .وكان الرشيد يطلب من ابنه أن يرافق إسحاق بن عيسى بن علي   ، لأنه كان يحفظ جميع أخبار أسرة بني العباس وكان ذا علم  وأدب ([18])  .

ج - عـلوم ا للـغة العربية والأدب والأشعـار :

  قد اهتَمَّ خلفاء العصر العباسي الأول بالدراسات اللغوية والأدبية والتعمُّق في علومها ، لتنمية ملكاتهم اللغوية ،  والارتقاء بذوقهم الأدبي،  الأمر الذي جعلهم يهتمُّون باختيار أفضل المؤدبين اللغويين لأبنائهم ، كما اهتموا بإرسالهم  إلى البوادي  والقرى ، ليسمعوا أقاصيص لغتهم ،  ويحاكوا مَنْطِقَهُم ،  ومِنْ ثَمَّ يَمْشُقُوا   الخط ، ويعرفوا مواضع الكلام ، وما يليق وما لا يليق ، ومراعاة المقامات في الخطاب ،  ويحفظوا الشعر والأمثال والنوادر ، لما لذلك من أثر واضح على المتأدبين في تنمية ذوقهم وتكوين شخصيتهم ، ومما يؤكد ذلك أنه كان عند المهدي مؤدبِّ الرشيد ، فدعاه المهديُّ يوماً وهو يستاك ،  فقال له :  ((كيف الأمر من السواك ؟ قال اسْتَك يا أمير المؤمنين ، فقال المهدي :  ((إنا لله وإنا إليه   راجعون )) ثُمَّ قال :  التمسوا لنا مَن هو أفهم من ذا. فقالوا رجل يقال له : علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة ،  قدم من البادية قريباً ،  فكتب بإحضاره من الكوفة ، فساعة أن دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال :  لبيك يا أمير المؤمنين. قال : كيف تأمر من السواك قال : سُك يا أمير المؤمنين.قال : أحْسَنْتَ وأصَبْتَ ، وأمر له بعشرة الآف درهم )). ([19])     
    .


    كما أنهم كانوا يهتمون بتميّز المؤدِّب وقدرته على استنطاق القدرات الكامنة لدى المتأدبين حتى تصبح خصالاً لازمة فيهم ، كالخطابة والشعر ، والكتابة ، والخط ،  وأدب الحديث ، وحسن التصرف في المواقف المختلفة.     
    ويلحظ وجود فئة من المؤدِّبين ممن امتازوا في علوم العربية لغةً ، ونحواً ، إلى جانب الأدب  ، والرواية  ، ومعاني الشعر  ، وفروع العربية الأخرى  ([20])    








الفصل الثالث    : اختيار المؤدب وأماكن التأديب

أولاً : الـفرق بين المـــــؤدِّب والمـــــعلم .

   لقد تطرّق العلماء والمربون المسلمون الذين أسهموا في تدوين التراث التربوي الأصيل في الماضي والحاضر،حيث تحدّثوا عن جوانب التأديب والمؤدِّبين ، وتكررت في مصادرهم ألفاظ متعددة كـ(( المعلم )) و (( المؤدِّب )) و (( المُكِتب )) وغيرها . وتنفرد لفظة (( مُكْتِب )) أو ما شابهها مثل : مُؤدِّب كُتَّاب ، ومُعلم كتَّاب ،ومُعَلم هجاء ، مُؤدِّب مَكْتب ، في تحديد الدور الذي يقوم به من أطلق عليه أحد هذه المصطلحات تحديداً دقيقاً . وليس من السهل وضع حد فاصـل بين لفـظتي (( مُؤدِّب)) و (( معلم)) إلا إذا استعملت لفظة (( مؤدِّب )) في الدلالة على من يعلم أبناء الخاصة ، بخلاف لفظة   (( معلم )) فإنها تطلق على من يقوم بتعليم أبناء العامة كما هو المعلوم عند علماء التربية  والتعليم ([21]) .
ولعل المرجح أن مؤدِّب أبناء العامة لم يكن أقل في المستوى العلمي من مؤدِّب أبناء الخاصة ، وإن كان تميز مؤدِّب أبناء الخاصة قائماً على الشهرة في تخريج المتأدبين في الغالب .
أما لفظة ((معلم )) فإن عدم استعمالها  في تدريس أبناء العامة  يربطها بلفظة  (( مُؤدِّب )) إلى مدى  ثم تفترق اللفظتان ، إذ توحي لفظة (( معلم )) بتفاوت بين أبناء الحرفة الواحدة ، كما توحي باتخاذ تلك الحرفة طوال الحياة ، بينما تشهد الشواهد على أن المؤدِّب قد يتحَّول إلى حرفة أخرى – أو يتابع عمله - بعد مدَّة التأديب  .




   وعليه فقد اتضح أن المعلم : هو الشخص الذي يتولى تعليم الصبيان من أولاد العامة في المساجد والكتاتيب، القرآن الكريم، ومـباديء القـراءة والكتابة في المراحل الدراسية الأولى.([22]) 
    أما المؤدِّب : فهو الذي يُنْـتَدَبُ لتعليم أولاد الخاصة وتأديبهم ، لتأهيلهم علمياً وشَخْصِيَّاً لإدارة أمور الدولة، وتولّي زمامها .

وبهذا يتضح أن المعلم هو الذي يمتهن التعليم في الكتاتيب والمساجد والأماكن التي يرتادها أبناء العامة كـ(( الحلق القرآنية ، وحلق المساجد ، وتدريس العامة في المنازل العلوم والفنون المختلفة)) وغيرها .([23])  بخلاف المؤدِّب الذي يتولى تأديب وتعليم ولاة العهد من أبناء الخلفاء ، لذا كان يُنْتَقى لأداء هذه المهمة خيرة رجال العصر علمـاً وأدباً وخلقاً .([24])  

ثانياً :  شروط اختيار المؤدبين عند خلفاء بني العباس

ان عملية اختيار المؤدب لأبناء الخلفاء تخضع لمجموعة من القواعد والشروط
والمؤدب عادتاً يتم اختياره من ألمع شخصيات عصره في العلم والأدب وقد روعي في اختيار المؤدب لأبناء الخلفاء في العصر العباسي القواعد التالية

أولاً : نجاح المؤدب في لاختبار الخاص الذي يختبرة الخليفة
 لقد كان بعض الخلفاء يعمدون الى وضع اختبار للمتقدم لشغل مهمة تأديب ابنائهم ولا نستغرب في ذلك اذا ما عرفنا ان الخلفاء انفسهم هم من كبار العلماء فاذا كان المؤدب صاحب ثقافة عالية واطلاع واسع واذا تأكد الخليفة من كفاءتة ومقدرته على مهمة التأديب اسند الية هذه المهمة وأجزل له العطاء .
هذا الخليفة المهدي كان عنده مؤدب يؤدب ابنة الرشيد فدعاه المهدي يوماً وهو يستاك فقال كيف الامر من السواك ؟ قال إستك يا امير المؤمنين فقال المهدي انا لله وانا اليه راجعون التمسوا من هو اعرف من هذا فأحضروا الية الكسائي علي بن حمزة فلما دخل علية سأله قال - يا علي  - قال لبيك يا أمير المؤمنين قال كيف الامر من السواك - فقال سُك يا أمير المؤمنين , قال أحسنت وأصبحت , وأجزل له العطاء , فحل الكسائي محل المؤدب الاول . ([25])       

 وهذا الخليفة الواثق فيما بعد يقول لابي عثمان المازني إن هاهنا قوما يختلفون الى أبنائنا فامتحنهم , فمن كان منهم عالماً ينتفع به ألزمناهم إياه ,ومن كان غيلر هذه الصفة قطعناهم عنه   ([26])  .
 
  ثانياً : الخبرة السابقة : من القواعد التي روعيت في اختيار عملية التأديب الخبرة , فالمؤدبون الذين عملوا سابقاً بمهنة التأديب , وكان لهم شهرتهم في ذلك , غالباً كانوا يفضلون على غيرهم , وانطلاقا من ضرورة توفر الخبرة السابقة في المهنة , نجد ان المنصور يسند مهنة تأديب المهدي الى معاوية ابن يسار , والمهدي بدوره نجده يختاره مؤدباً لأبنائه فيما بعد , ([27])  وكذلك الحال بالنسبة للكسائي الذي أدب الرشيد وابناء الرشيد .



ثالثاً : التفوق على الاقران : قد يحتار الخليفة في اختيار المؤدب الانسب لابنائه خاصة اذا ظهر عدد من العلماء المتميزين فيلجأ الخليفة الى وسيلة مناسبة لأختيار أحد المؤدبين وأفضلهم فيعقد مثلاً مجالس المناظرات وحلقات الدرس .

رابعاً : شهادة مؤدب كبير :ـ ومن القواعد التي حرص الخلفاء عليها في اختيار المؤدب لأبنائهم ، ضرورة تزكية هذا المؤدب من قبل مؤدب كبير ، وهذه التزكية بمثابة شهادة من خبير بمهنة التأديب ، فهذا الكسائي نجده يزكي الأحمر ويختاره بدلاً منه لتأديب الأمين  ابن هارون الرشيد ([28])  . ،وكان الرشيد قد استغنى عن خدمات الكسائي بعد أن أصابه الوضح في وجهه0

خامسا: لياقه المظهر : ويبدو أن الخلفاء قد تعدى إهتمامهم المستوى الثقافي للمؤدب ، إلى تأكيدهم على حسن المظهر فحرصوا على  أن يكون المؤدب سليم الحواس ، مقبول المظهر ، وربما تنبه الخلفاء إلى أن المظهر يؤثر بالنسبة للمؤدب  ،كما يؤثر السلوك ، فهذا الجاحظ  يروي  قائلا :ـ ذكرت للمتوكل من أجل تأديب بعض بنيه ، فلما رآني اشتبشع  منظري ، فأم لي بعشرة آلاف درهم وصرفني0([29])    






ثالثاً : المــــساجد  ودورها في التأديب .


   يرتبط تاريخ المسلمين ارتباطاً وثيقاً بالمسجد ، ولهذا فالحديث عنه حديث عن المكان الرئيس لنشر العلوم الشرعية  . وقد قامت حلقات الدراسة في المسجد منذ نشأته واستمرت كذلك على مرَّ السنين والقرون ، وفي مختلف البلاد الإسلامية دون انقطاع ، ولعل السبب في جَعْل المسجد مركزاً لنشر العلم ذلك أنَّ التعليم في بداية الإسلام يعنى بالعلوم الدينية التي تشرح تعاليم الدين الحنيف ، وتوضح أسسه وأحكامه، وأهدافه التي تتصل بالمسجد أوثق اتصال ، يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى :
{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا  }([30])  (( مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال ، ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين، وكل من جاء أكل، ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم ، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل )) ([31]) بل إن المسلمين في عصورهم الأولى وسّعوا مهمة المسجد ، فاتخذوه مكاناً للعبادة ، ومعهداً للتعليم ، وداراً للقضاء، وساحة تُجمع فيها الجيوش ، ومنزلاً لاستقبال الرسل والسفراء , وكان أول مسجد أُنشئ في الإسلام مسجد قباء ، ويقال أن فيه نزلت الآية الكريمة ([32])   ]  لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) [ ([33])  .
   ويُعد المسجد من أهم وسائط التأديب والتعليم في الإسلام اكتسب أهميته ومكانته في نفوس المسلمين من الدور الذي يقوم حيث تؤدى فيه العبادات وينشر العلم ويوجه المسلمون من خلال توعيتهم وإرشادهم وبخاصة في المدة التي سبقت نشأة المدارس وانتشارها في العالم الإسلامي ،
 وقد أسس النبي r  بعد هجرته إلى المدينة مسجده الشريف و كان يجلس مع أصحابه  – رضوان الله عليهم – يفقههم في الدين ، ويقرئهم القرآن الكريم ، لينالوا بذلك خيريّ الدنيا والآخرة .  
  وكان المسجد النبوي  أول مكان اتخذ لنشر العلم ولتعليم المسلمين قراءة القرآن وأصول الكتابة ، وتعاليم الدين الإسلاميّ ، وقد كانت  المساجد في عهد النبي r وخلفائه الراشدين y  مراكز تهذيبية ومعاهد تعليمية تاريخية كان لها الأثر الكبير في نشر الوعي الديني الصحيح ، وبث روح المعرفة في نفوس المسلمين .  

ومما يدل على أن المساجد كانت وسائط تأديبية للخلفاء وأبنائهم يتلقون فيها مختلف العلوم الشرعية، ما روي أن الخليفة أباجعفر المنصور كان ممن درس القرآن الكريم والفقه وسمع الحديث في مساجد الكوفة بالعراق، كما أنه حضر مجلس أبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وغيرهما لأخذ علوم العربية والأدب ورواية الشعر ([34]) .
   ويستخلص مما سبق أن المسجد يعد المؤسسة التعليمية والملتقى التربوي النافع؛ إذ اتخذه الرسول r وأصحابه y من بعده مركزاً لنشر العلم والمعرفة بين أبناء المسلمين ، وقد ظهرت العلوم والمعارف المختلفة في رحاب المسجد قبل أن تظهر المدارس ودور الحكمة والمكتبات والأربطة وغيرها من روافد التعليم إلى الوجود في القرون التالية من تاريخ التربية الإسلامية ، وعن المساجد والجوامع تفرعت بقية معاهد التربية والتعليم  كدور الحكمة والمدارس في العصور المتأخرة ([35]).   





رابعاً : قـــصور الخـــلفاء ودورها في التأديب

   لقد اتسم النظام التعليمي في العصر العباسي الأول باليسر والمرونة ، فلم يتقيَّد بمكان معين في نشر الثقافة والتعليم ، فكانت تعقد الحلقات العلمية في قصور الخلفاء يحضرها الطلاب الراغبون في العلم والأدب ، وكذا الأساتذة والعلماء ،  للانتفاع بما يستمعون من المناظرات والمناقشات العلمية والأدبية  . ولقد شجع ذلك النظام على حسن استيعاب العلوم بالبحث الفردي والاتصال الوثيق بين المعلم والمتعلم كما ساعد على الإفادة من ذلك النظام انعقاد حِلَقِ العلم وإلقاء الدروس بصفة عامة في دور العلماء عامة و في قصور الخلفاء ووجهاء القوم من الوزراء والقادة بصفة  خاصة , حيث يُدْعى العلماء للمناظرة والنقاش العلمي بحضرةالخلفاء .

 ولهذا يذكر المقري : (( أن الخواص من فقهاء الأندلس كانوا يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بحاضرة ملوكهم ذوي الهمم في العلوم أو في قصور الحكام وسراة القوم)).([36])
      لقد كانت المنتديات الأدبية للخلفاء مخصصة لعِلْية القوم من العلماء والأدباء ، ولها تقاليد خاصة تجب مراعاتها ، فالداخل على مجلس الخليفة يجب أن يكون نظيف الملبس ، حسن السَّمت، يجلس في المكان المناسب له ، لا يجيب إلاّ إذا سئل ، ولا يرفع صوته ، وعليه أن يتعلم حسن الاستماع كما يتعلم حسن الكلام ، وأن يمهل المتكلم حتى يتم حديثه ، وأن يتجنب الألفاظ البذيئة ، ولا يكثر القهقهة ([37])  .  
     وهذا يدل على أن المجالس العلمية تُعقد في قصور الخلفاء ، و تُعد وسيطاً تربوياً وتأديبياً يثري الفكر التربوي، ولا يقل شأنه  عن تلك الخدمات التي تقدمها المؤسسات التعليمية ، وبخاصة أنها لم تقتصر في مجال محدد بل تطرقت إلى معارف متنوعة وعلوم مختلفة كالتفسير والحديث والتشريع الإسلامي والفلسفة وعلوم اللغة والأدب وغيرها من مجالات الثقافة الإسلامية  . وبهذا يتضح الاهتمام الملحوظ في قصور الخلفاء  اهتمامهم بتلاقح الأفكار ونقدها وتقويمها ، كما أنها ساهمت في الرفع من شأن التأديب والسمو بمكانته .
 لقد كانت المناهج التعليمية عند المسلمين على مر العصور تتغير تبعاً لمستقبل المتعلمين وما ينتظرهم من مهام .  لذلك وُجد نوع من التعليم الابتدائي بقصور الخلفاء، والعظماء من أعيان الدولة ، ليجد أبناء هؤلاء ما يؤهلهم لتحمُّل الأعباء التي سينهضون بها في المستقبل 
   ويعتقد أن هذا النوع من التعليم يرتبط إلى حد ما بالنظام التعليميّ في الكتاتيب ، إذ أن كلا منهما مهمته تغذية الصبيان بالثقافة والمعرفة ، ومساعدتهم على اكتساب الأدب، وتهذيب السلوك؛ بَيْدَ أن التأديب في القصور يتسع ويتجاوز هذا الحدّ ، فالمنهاج التعليمي في قصور الخلفاء يحدده المؤدِّب وقد يشاركه ولي أمر المتأدب ليكون ملائماً لابنه([38]) ، والمعلم هنا لا يسمى معلم الصبيان أو معلم الكتَّاب ، وإنما يطلق عليه لفظ (( المؤدِّب )) وقد (( اشتق اسم المؤدّب من الأدب والأدب إما خلق وإما رواية  ، وقد أطلقوا كلمة مؤدِّب على معلمي أولاد الملوك إذ كانوا يتولون الناحيتين جميعاً )) ([39])  ثم إن المتعلم هنا يتلقى العلم حتى يجاوز عهد الصبا وينتقل من مستوى التلميذ المتلقي في الكتَّاب إلى مستوى الطالب أو الدارس في حلقات المساجد وقصور الخلفاء .
  ويتميز هذا اللون التأديبي بأن المؤدب يُخَصَّصُ له جناح في القصر يعيش فيه غالباً، ليكون إشرافه على المتأدب أحكم وأشمل ([40]) .
 يقول أبو العباس ثعلب    (( أقعدني محمد بن عبد الله بن طاهر    مع ابنه طاهر  ، وأفرد لي داراً في داره وأقام لنا وظيفة، ) فكنت أقعد معه إلى أربع ساعات من النهار ثم أنصرف إذا أراد الغداء ، فنما   ذلك إلى أبيه ، فكسا البهو والأروقة، وضاعف ما كان يعد من الألوان ، فلما حضر وقت الانصراف انصرفت ،فَنُمِي ذلك إليه ، فقال للخادم الموكل بنا : قد نُمي إليّ انصراف أحمد بن يحيى فظننت أنه يستقل ما يُحْضر إليه ولم يستطب الموضع فأمرنا بتضعيفه ثُم نمي إلي أنه انصرف فقل له : أبيتك أبرد من بيتنا ؟ أو طعامك أطيب من طعامنا ؟.... فلما عرَّفني الخادم ذلك أقمت فكنت على هذه الحال ثلاث عشرة سنة )).([41])
   أما المنهاج التعليمي لأبناء الخلفاء فإنه يلتقي في أسسه العامة بمنهاج التعليم الذي وضع لجميع الصبيان ، مع بعض الحذف أو الإضافة استجابة لتوجيه ولي أمر المتأدب وتمشياً مع الرغبة في إعداد هذا الصبي إعداداً خاصاً يتناسب مع  الأهداف والمسؤوليات التي ستواجهه في مستقبل حياته.
ومن أروع الوصايا التي ساعدت في تشكيل  المنهاج التعليمي وتحديد معالمه هي التي وضعها الخليفة هارون الرشيد بين يدي الأحمر النحوي مؤدب ابنه الأمين ليسير بضوئها ويعمل على تحقيقها يقول : (( يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مُهْجة نفسه وثمرة قلبه، فصّير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة. فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرّفه الأخبار، ورَوِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلاّ في أوقاته، وخُذْه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه،ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرّن بك ساعة إلاّ وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقَوِّمْه ما استطعت بالقرب والملاينة، فان أباهما فعليك بالشدة والغلظة ))([42]) .
  وقد خطا العباسيون في هذا المجال خطوات واسعة ، فأنشأوا في قصورهم مدارس خاصة يلتحق بها أولاد الملوك  وعلية القوم وسراتهم ، ويسير المؤدبون في تثقيف هؤلاء الصبيان وتربيتهم تربية خاصة تساعد في إعدادهم لخدمة الخلفاء وتمكنهم من شغل المناصب المهمة في الدولة . ([43])
  الأمر الذي جعل مهمة التأديب مهمة سامية ورفيعة ،تضع من يتسم بها ويشغلها في مكانة عالية وتلقِي عليه المهابة والإجلال والتقدير من مختلف فئات المجتمع وطبقاته .



خامساً :   مـــنازل العـــــلماء ودورها في التأديب

   على الرغم من توافر الأوعية المعرفية والثقافية في مختلف الوسائط التعليمية من مساجد وكتاتيب وقصور الخلفاء  ودور الحكمة إلى غير ذلك من أمكنة التأديب إلا أن منازل العلماء تظل المورد الثّر للعلوم والمعارف مما أتاح الفرصة للعديد من العلماء والمفكرين بأن يهيئوا منازلهم للتربية والتعليم  .


   لقد ظهر التأديب التربوي بدءاً بالمنازل منذ ظهور الإسلام ، إذ تُعد من أوائل الأماكن التي تلقى المسلمون فيها تعليمهم قبل نشأة المساجد ، فلقد اتخذ الرسول r دار الأرقم بن أبي الأرقم t مركزاً علميَّاً يلتقي بأصحابه –رضوان الله عليهم- ليعلمهم مبادئ الإسلام ،وليبين لهم محاسنه ، ويقرئهم ما نزل عليه من آيات القرآن الكريم ، كما أنه عليه الصلاة والسلام كان يجلس بمنزله ويستقبل المسلمين الذين يلتفون حوله  يستفتونه فيفتيهم ويسألونه فيجيبهم فكان خير معلم ومرب للأمة ([44]) . قال تعالى:]  لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ   [ ([45]) . 

  إن لمنازل العلماء وبيوتهم دوراً بارزاً في نشر العلم وتوسيع دائرة التعليم ، فكانت الدروس المنتظمة تلقى في بيوت العلماء ، ولقد أعدت تصاميم بنائها لتلائم تلك الحلقات العلمية .   وأثر عن بعض المهتمين بالعلم أنهم كانوا يقفون على أبواب العلماء والفقهاء يستفسرونهم عن مسائل قد تشكل عليهم ليسمعوا منهم ما يزيل تلك الإشكالات ويوضح لهم ذلك الغموض ،  بل وربما عقدت المجالس وألقيت الدروس عند عتبة الباب ، حيث يجلس الطلبة مع شيخهم الذي يلقي عليهم دروسه وذلك لرغبة الطلبة في علمه ولضيق منـزله   .

ومن هذه المجالس العلمية : مجلس القاضي المحاملي  الذي كان يعقده في منزله   حيث كانت تُبحث فيها المسائل الفقهية ، وقد استمر هذا المجلس حتى بعد وفاته . وظل معروفاً باسم ( مجلس المَحَامليّ ) حتى القرن الخامس الهجري . ومثله مجلس اللغة لإبراهيم الحربي والذي يعد معهداً لغوياً ، ولم يفقد ثعلب النحوي  إبراهيم الحربي في مجلس لغة ولا نحو منذ خمسين سنة  ، وكان منزل الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله – ملتقى لعلماء بغداد والوافدين إليها ، كما كان يقصده عدد كبير من الطلبة ، وممن اتخذوا من بيوتهم مكاناً للتعليم الإمام مالك بن أنس – رحمه الله – فقد درَّس أول الأمر في المسجد النبوي ،ثم صار درسه بعد ذلك يلقيه في بيته ، وقد التزم في تدريسه السمت والسكينة والوقار ، والابتعاد عن لغو الحديث ، وعدم الخوض فيما لا علم له فيه ، وكان يرى لزاماً على طالب العلم أن يتحلى بالأدب والسمت والوقار ، والبعد عن كل مشين  .



                  


الفصل الرابع : أشهر المؤدبين وأجور المؤدبين


    أولاً :   معاوية بن يسار


اسمه وكنيته ومولده :
      هو معاوية بن عبيد الله بن يسار يكنى بأبي عبيد الله الأشعري مولاهم ولد سنة مائة للهجرة   . 

قيامه بالتأديب :
     كان رحمه الله خَيِّراً فاضلاً عابداً من أهل طبرية من بلاد الأردن، وكان المهدي يُعَظِّمُه ولا يُخَالِفُه في شيء يشير به عليه إذ كان كاتبه ووزيره .
وقد اشتغل بكتابة الحديث والبحث في علومه وفنونه، وكان ثقة كثير العلم، وكذا في رواية الشعر والأدب ، وتشىر المصادر إلى أنه مارس التدريس ؛ إذ كان معلماً قبل الاتصال بالخليفة أبي جعفر المنصور ([46]) .
كما اهتم –رحمه الله-  بمهنة التأديب، فكان عارفا بتأديب أبناء الخاصة لما وهبه الله U  من براعة في الأسلوب والأداء، كما امتاز بحسن التدبير وبُعْدٍ في النظر .
ولقد كان معاوية بن عبيدالله رحمه الله يعمل كاتباً عند الخليفة المهدي ، وكانت لهذه الملازمة أثر تربوي في تكوين شخصية الخليفة المهدي وطبيعة العلم الذي أدَّبه به ، الأمر الذي جعل المهدي محباً للحديث مولع بعلومه، حافظاً له   .
   ويتضح أثر تأديب معاوية للمهدي من خلال ما قاله أبوجعفر المنصور :                    (( أتلومني في اصطناع معاوية ، وقد كنت اجتهد بأبي عبد الله يعني المهدي -أن ينزع عنه لباس العجم ، فلا يفعل ، فلما صحبه معاوية لبس لباس الفقهاء )) ([47]) .
ويستشف مما ذكر تأثير العالم معاوية بن عبيدالله على الخليفة المهدي يوم أن كان وليا للعهد وتكوين الجانب العلمي في تزويده بمختلف المسائل الفقهية وحل القضايا المتعلقة بالفقه .
وكان هذا اعتراف من الخليفة المنصور بفضائل معاوية بن عبيد الله وتأثيره على ابنه المهدي وتكوين شخصيته العلمية و المظهرية.

وفاته :
  وذُكر أن الجسور امتلأت يوم وفاته فلم يَعبر عليها إلاَّ من تبع جنازته من مواليه واليتامى والأرامل والمساكين وكانت وفاته ببغداد وقد دفن في مقبرة قريش سنة مائة وسبعين , وكان من خيار الوزراء،  صاحب علم وفضل ورواية وعبادة وصدقات ([48]) .

                                











ثانياً : علي الكسائي


اسمه ونسبه وكنيته :
   هو علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز بن عثمان  الكسائي يكنى بأبي الحسن  الأسدي الكوفي، مولى بني أسد نزيل بغداد.

قيامه بالتأديب:
    لقد كان الإمام الكسائي – رحمه الله – ممن وُسم بالتأديب ، واكتسب به مالاً كثيراً، وكان سخياً جميل الأخلاق .([49])
 وقد عمل مؤدِّباً للرشيد والأمين من بعده  ، وكان أثيراً عند الخليفة حتى أخرجه من بين المؤدِّبين إلى طبقة الجلساء والندماء والمؤانسين لجلالة قدره وعظيم فضله . ويقال أنه تعلم العربية على كبر وذكروا قصته في ذلك .([50])  
    يروي الكسائي عن نفسه ويقول : (( أحضرني الرشيد سنة اثنتين وثمانين ومائة في السنة الثالثة من خلافته ، فأخرج إليّ محمداً الأمين وعبد الله المأمون كأنهما بدران ، فقال : امتحنهما بشئ ؟ فما سألتهما عن شيء إلاَّ أحسنا الجواب فيه ، فقال لي كيف تَراهما ؟ فقلت :
         أرى قَمري أُفْقٍ وفرعي بشـــــــامةٍ ([51])              يَزِينُهُما عـرقٌ كــــريم ومَحْتِــــدُ   
يَسُـدَّان آفاق السـماءِ بهمةٍ
سَلِيلَيْ أمير المؤمنين وحَـائِزَيْ
حياةٌ وخصبٌ للولي ورحـمةٌ
               

يُؤيِّدها حزمٌ ورأيٌ وسُؤْددُ
مَوَارِيث ما أبقى النبيُّ محمدُ
وحربٌ لأعداءٍ وسيفٌ مهندُ





   ثم قلت : فرعٌ زكا أصله ، وطاب مَغْرِسُه ، وتمكنت فروعه ، وعذبت مشاربه ، آواهما ملِكٌ أغرُّ ، نافذ الأمر ، عظيم الحلم ، أَعْلَاهُمَا فَعَلَوَا ، وسما بهما فَسَمَوَا ، فهما يَتَطَاوَلانِ بِطَوْلِه ،ويستضيئان بنوره ، وينطقان بلسانه فأمتع الله أمير المؤمنين بهما، وبلَّغه الأمل فيهما ، فقد تفقدتهما فكنت أختلف إليهما في الأسبوع طرفي النهار )).([52])
  وهذا يدل على أن الخليفة هارون الرشيد قد استقدمه لتأديب ولديه الأمين والمأمون ويستشف ذلك من قوله : (( فقد تفقدتهما فكنت أختلف إليهما في الأسبوع طرفي النهار)). ومما يؤكد ممارسة الكسائي مهنة التأديب لدى أبناء الخليفة هارون الرشيد ما روي عن أبي عمرو الشيباني أنه قال أخبرنا المفضل قال : جاءني رسول الرشيد يوم الخميس بكرا فقال لي أجب، فدخلت عليه ومحمد عن يمينه والمأمون عن يساره والكسائي بين يديه باركا وهو يطارح محمداً و المأمون معاني القرآن ، فسلمت فرد وقال : اجلس ، فجلست فقال لي: كم اسم في سيكفيكهم الله ؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين أولها اسم الله تبارك وتعالى لا إله إلا الله ، والثاني اسم النبي r ، والثالث اسم الكفرة ، فالياء والكاف متصلتان بالسين لله جل وعز والياء والكاف متصلتان بالهاء للنبي r ، والهاء والميم للكفرة . فقال كذا أخبرنا الشيخ وأشار بيده إلى الكسائي ، والتفت إلى محمد فقال له : أفهمت؟ فقال: لقد فهمت يا أمير المؤمنين . قال : فاردد ذلك علي . فرده فقال : أحسنت ... ))   
    ومن المواقف التي تدل على نباهة الكسائي وفطنته وكياسته وحسن تصرفه ، وكذا إلمامه بعلوم العربية . ما حُكي من أنه كان عند المهدي مؤدِّبٌ يؤدِّب الرشيد ، فدعاه المهدي يوماً وهو يَسْتَاك فقال له : كيف الأمر من السواك ؟ قال: استك يا أمير المؤمنين ! فقال المهدي : (( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ثم قال : التمسوا لنا من هو أفهم من ذا ؟ فقالوا :رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة ، قدم من البادية قريباً فكتب بإشخاصه من الكوفة ، فساعة دخل عليه، قال : يا علي بن حمزة ، قال: لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : كيف تأمر من السواك ؟ قال : سُك يا أمير المؤمنين ، قال : أحسنت وأصبت ، وأمر له بعشرة آلاف درهم )).

  
   ولم تكن علاقة المؤدِّبين بمن يؤدبونهم علاقة تأديب وتعليم فحسب ، بل هي في أصلها علاقة تَسُودها المحبة ، وتُظِلُّها الرحمة ، ويَكْسُوها الوِدّ ، ويُرَفْرِفُ عليها الحُنُو والعطف ، وتَصْحَبها الاحترام والتقدير ، والنصح والإخلاص ، كما كان الإمام الكسائي – رحمه الله - يحظى من الخليفة هارون الرشيد وأولاده - بالتقدير والاحترام وفي مقابل ذلك فهو يُكِنُّ لهم التعظيم والتبجيل .
     ومما يدل على قوية تلك العلاقة ومتانتها (( أنه في ذات يوم أشرف الرشيد على الكسائي وهو لا يراه ، فقام الكسائي ليلبس نعله لحاجة يريدها فابتدرها  الأمين والمأمون ، وكان مؤدَّبَهُما فوضعاها بين يديه ، فَقَبَّلَ رُءُوسَهُمَا وأَيْدِيَهُمَا ثم أقسم عليهما ألاَّ يُعَاوِدَا ، فلما جلس الرشيد مجْلِسه قال: أيُّ الناس أكْرَمُ خَدَماً ؟ قال : أمير المؤمنين -أعزه الله- قال : بل الكسائي يخدمه الأمين والمأمون وحدَّثهم الحديث )) .([53])
فيظهر من ذلك ما يتحلى به المؤدبون من العطف والمودة والرحمة ، ومن المتأدبين الاعتراف والشكر والإجلال.  

مكانته العلمية  ومصنفاته:
   يُعد الكسائي أحد الأئمة في النحو واللغة ، وأحد السبعة القرآء المشهورين ، ومن رواة الحديث . وقد صنف – رحمه الله – العديد من المؤلفات كمعاني القرآن ، والقراءات ، وكتاب العدد، ومقطوع القرآن وموصوله ، وكتاب الحروف ، وكتاب اختلاف العدد ، وكتاب النوادر الكبير ، والأوسط ، والصغير .وغيرها . ([54])

وفاته :
   توفي - رحمه الله – بصحبة الخليفة هارون الرشيد ببلدة الري في سنة تسع وثمانين ومائة ، وقيل : ثمانين ومائة ، وقيل : ثلاث وثمانين ومائة ، ومعه أحد الفقهاء ، فقال الرشيد : (( اليوم ذهب الفقه والعربية )) ([55]) .

                      
ثالثاً :  يحيى الفراء

اسمه ونسبه وكنيته :
     هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور بن مروان الأسلمي الديلمي الكوفي ، المكنى  بأبي زكريا الفرَّاء مولى بني أسد من أهل الكوفة([56])  .
قيامه بالتأديب :
   كان العالم النحوي يحيى بن زياد الفراء مؤدِّباً مبرزاً تميَّز بالخبرة والمهارة وحسن الأداء . ويحكى عنه أنه لما عزم الاتصال بالخليفة المأمون لتأديب بنيه إذ جاءه أحد المؤدِّبين المقربين لدى الخليفة المأمون  يقول : فرأيت صورة أديب ، وأبهة أدب فجلست إليه وفاتشته   عن اللغة فوجدته بحراً، وعن النحو فشاهدته نسيج وَحْدِه ، وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم، وفي النجوم ماهراً ، وبالطب خبيراً ، وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها حاذقاً ، فقلت له : مَن تكون؟ وما أظنك إلاَّ الفراء ! ، فقال : أنا هو ، فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين فأمر بإحضاره لوقته ، وكان سبب اتصاله به . ([57])  
    لقد اختار الخليفة المأمون الإمام يحيى بن زياد الفراء لتأديب ولده العباس وتعليمه إذ كان يدرسه النحو .
وكان الخليفة المأمون قد وكَّل يحيى بن زياد الفراء للقيام بمهمة تأديب ابنيه وتلقينهما النحو فأراد الفراء أن ينهض لقضاء بعض حوائجه ، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدِّمانه له ، فتنازعا أيهما يقدمه ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منها فرداً فقدَّماها، وكان المأمون له على كل شئ صاحب خبر ، فرفع إليه ذلك الخبر، فوجه إلى الفراء فاستدعاه فلما دخل عليه قال له : (( من أعز الناس ؟ قال : ما أعرف أعزَّ من أمير المؤمنين ، قال : بلى ، من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين ، حتى رضي كل واحد أن يقدم له فرداً . قال : يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما من ذلك ، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها ، وأكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها .   فقال له المأمون : لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً وألزمتك ذنباً ، وما وضَعَ ما فعلاه من شرفهما ، بل رفع من قدرهما ، وبَيَّن عن جوهرهما ، وقد بيَّنتْ لي مَخْيِلة الفِراسة بفعلهما ، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث ، عن تواضعه لسلطانه ، ووالده ، ومعلِّمه العلم ، وقد عوّضتُهما بما فعلاه عشرين ألف دينار ، ولك عشرة الآف درهم على حسن أدبك لهما )) .([58])            
ولاشك أن هذا النص يدل على مكانة العالم يحيى بن زياد الفراء لدى الخليفة المأمون مما جعل الخليفة أن يقدم مكافأة مالية على حسن تأديبه لابني الخليفة.

مكانته العلمية ومصنفاته :
 كان يحيى بن زياد الفراء من أبرع الكوفييين وأعلمهم فقيهاً عالماً بالخلاف، وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها متضلِّع في علم الكلام والفلسفة([59]) ، كان هو وعلي بن المبارك الأحمر من أشهر أصحاب الكسائي، ثقة إماماً.  ([60]) .
وقد سئل الكسائي أي الرجلين أعلم بالنحو الفراء أو الأحمر ؟ فقال : (( الأحمر أحفظ وهذا أعلم بما يخرج من رأسه ))  
 لقد اعتنى يحيى بن زياد الفراء بالتأليف والتدوين ، فمن مصنفاته:كتاب  الفاخر  ، وكتاب  آلة الكاتب ، وكتاب  الجمع والتثنية في القرآن  ، وكتاب معاني القرآن ، وكتاب المصادر في القرآن، وكتاب اللغات ، وكتاب الوقف والابتداء ، وكتاب المقصور والممدود،وكتاب المذكر والمؤنث ، وكتاب الحدود الذي ألفه بأمر من المأمون. وغيرها

وفاته :
 توفي أبو زكريا الفراء في طريق مكة سنة سبع ومائتين للهجرة فرحمه الله رحمة  واسعة . 

               
رابعاً :   عبدالملك بن قريب الأصمعي:


اسمه ونسبه وكنيته :

  هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مُظَهِّر بن رباح بن عمرو بن عبد شمس الباهلي ، المكنى  بأبي سعيد الأصمعي

قيامه بالتأديب:

كان الإمام عبد الملك بن قريب الأصمعي – رحمه الله – بحراً في اللغة كثير الترحال إلى البوادي يقتبس علومها ، ويتلقى أخبارها  ، عرف برواية القصص عن أخبار الأولين والآخرين ، وقد مارس تأديب أبناء الخلفاء، إذ كان ملماً بطرائق التأديب ومناهج المؤدبين ، وذا كفاءة وخبرة ومهارة ومرجعية . استقدمه الخليفة هارون الرشيد وضم إليه الأمين والمأمون مؤدِّباً لهما  
ليأخذا منه العلم والأدب .

مكانته العلمية ومصنفاته:

   كان الأصمعي إماماً في اللغة والنحو والغريب والأخبار من أهل البصرة ، قدم بغداد في أيام الرشيد،  يقول عن نفسه : (( أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة  )) وكان من أهل السنة ، ولا يفتي إلاّ فيما أجمع عليه علماء اللغة ، ويقف عما ينفردون عنه ، ولا يجيز إلاّ أفصح اللغات  .   

وعُد الأصمعي رحمه الله من المكثرين في التصنيف والتأليف جامعاً بين فرائد اللغة وأسرار الأدب، ومن مصنفاته: كتاب خلق الإنسان ، وكتاب الأجناس ، وكتاب الأنواء ، وكتاب خلق الفرس ، وكتاب الخيل ، وكتاب الأضداد ،وكتاب الأخبية والبيوت ، وكتاب النوادر ، وكتاب المقصور والممدود ، وكتاب السلاح ، وكتاب اللغات، وكتاب القلب والإبدال ، وكتاب معاني الشعر ،.... وغير ذلك .

وفاته:

توفي عبد الملك بن قريب الأصمعي - رحمه الله - سنة عشر ومائتين للهجرة، وقيل سنة خمس عشر ومائتين وقيل ست عشرة ومائتين. 



سادساً : أجور المؤدبين

إن الوضع  المالي للمؤدبين كان على درجة عالية من الرخاء والغنى ،وقد انعكس المستوى المالي الذي عاشه الخلفاء والأمراء وا لخاصة ، إنعكاساً مباشراً على مستوى المؤدبين ، فقد عنوا برفع المستوى المالي والمعاشي  لمؤدبي أولادهم .
 فكان تعيين شخص ما مؤدباً ، يعتبر فاتحه خير عليه وعلى أهله ، سيما إذا نظرنا إلى مقدار الراتب الذي كان يتقاضاه المؤدب ، إضافة إلى ما  يوهب له من هدايا وهبات
وقد حرص الخلفاء على جذب من اشتهر من المؤدبين بعلمه وسعة ثقافته ولم يترددوا عن دفع المبالغ الكبيرة لهم0

اصبح الكسائي مؤدباً لأبناء الرشيد ، ولم يكن له زوجة أو جارية ،كتب الرشيد يشكوا ذلك عبر قصيده مطلعها : ـ
قل للخليفة ما تقول لمن                        أمسى إليك بحرمة يدلي
فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم ،وجاريه حسناء ، وخادم  .


        وقد شارك الأصمعي في تأديب الامين وجعل له الرشيد جارياً مقداره عشرة آلاف درهم ،
            


أما الفراء فقد  وصله المأمون بعشرة آلاف درهم لقاء تعليمه ولده العباس0

وعلى الرغم من الإشارات الكثيرة التي أوردتها النصوص حول أجور المؤدبين ، إلا أننا لا نستطيع الوقوف بدقة على مقدار الجاري الذي كان يصرف لمؤدبي أولاد  الخلفاء شهرياً غير أن الخلفاء أنفسهم ، كانوا يغدقون على أولئك المؤدبين الصلات والرواتب العالية، وقد تفاوتت هذه الرواتب من مؤدب لآخر ، بحسب المكانة العلمية والثقافية للمؤدب ، إضافة إلى سخاء مستخدميهم0







الفصل الخامس :  الخاتمة وتشتمل :
أولاً : أهم نتائج الدراسة   :

1.   الرفاهية الاقتصادية ، والأمن الاجتماعي، والنهضة العلمية والفكرية أثراً واضحاً على واقع عملية التأديب التربوي .
2.    أن التأديب عملية تربوية شاملة ،تهدف إلى تعديل السلوك وتنميتها ، 
3.   أن المؤدب لابد له من شروط  و مميزات تميزه عن غيره من المعلمين .
4.   ان المؤدب كان له أجر يتقاضاه ممن ولي تأديبه .





ثانياً : التوصيات والمقترحات : 
1.  الاهتمام بطرائق التعليم عند المؤدِّبين للاستفادة منها في تدريس المحتوى التعليمي في المدارس المعاصرة .
2.  مواصلة الجهود في الكشف عن ظاهرة التأديب في العصر العباسي الثاني ، والاستفادة منها في المجالات التربوية .









ثالثاً : المصادر والمراجع

1)        لسان العرب ،    ابن منظور
2)       الصحاح ((تاج اللغة وصحاح العربية ))، إسماعيل بن حماد الجوهري
3)       مختار الصحاح ،   محمد بن أبي بكر الرازي  
4)       مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيّم الجوزية 
5)          مروج الذهب ومعادن الجوهر،   المسعودي
6)       تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدِّبو الأطفال، أحمد بن محمد    بن حجر الهيتميّ
7)         الوصايا ومدى تطورها في العصر العباسي الأول  سهام الفريح
8)          معجم الأدباء    ياقوت الحموي
9)         الوصايا الخالدة    عبد البديع صقر 
10)                                         البداية والنهاية   . ابن كثير
11)                     تاريخ بغداد ا لخطيب البغدادي
12)                   آراء ابن الحاج في تعليم الصبيان  محمد الجميل
13)                     المؤدِّبون وتجربتهم في تعليم اللغة العربية ،    سليمان بن إبراهيم العايد
14)                   التربية الإسلامية في القرن الرابع ،   حسن عبد العال
15)                   النفقات وإدارتها في الدولة العباسية , ضيف الله يحيى الزهراني    
16)                   نزهة الألباء في طبقات الادباء   الانباري
17)                   أنباء الرواه   للتنوخي
18)                   ولاية العهد في الدولة العباسية      يوسف ابراهيم
19)                   الجامع لأحكام القرآن  القرطبي
20)                    فتح القدير،  الشوكاني
21)                             مؤدبو الخلفاء في عصر العباسي الأول ،   محمد عيسى الصالحية
22)                           تاريخ التربية والتعليم   سعد مرسي 
23)                         إدارة المؤسسات التربوية والتعليمية عند المسلمين ،   إبراهيم الخضير
24)                         التربية الإسلامية وفلاسفتها ،  محمد عطية الأبراشي
25)                        تاريخ التربية الإسلامية،    أحمد شلبي
26)                       ابن خلدون ، المقدمة ، 
27)                       ( الرحيق المختوم  ).     صفي الرحمن المباركفوري
28)                   معجم االشعراء  .      المرزباني
29)                          الفرج بعد الشده            التنوخي     
30)                   إنباه الرواة على أنباه النحاة ،   علي بن يوسف القفطي
31)                   سير أعلام النبلاء           الذهبي 







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق